سورة الفرقان - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}
اعلم أن قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا} هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحاصلها: لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه {أَوْ نرى رَبَّنَا} حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا؟ وتقرير هذه الشبهة أن من أراد تحصيل شيء، وكان له إلى تحصيله طريقان، أحدهما يفضي إليه قطعاً والآخر قد يفضي وقد لا يفضي، فالحكيم يجب عليه في حكمته أن يختار في تحصيل ذلك المقصود الطريق الأقوى والأحسن، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أكثر إفضاء إلى المقصود، فلو أراد الله تعالى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لفعل ذلك وحيث لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه هذا حاصل الشبهة، ثم هاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} معناه لا يخافون لقاءنا ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهامية، إذا كان معه جحد، ومثله قوله تعالى: {مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي لا تخافون له عظمة، وقال القاضي لا وجه لذلك، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، ومعلوم أن من حال عباد الأصنام أنهم كما لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد، فكذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة من الجنة والثواب، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً، فالخوف تابع لهذا الرجاء.
المسألة الثانية: المجسمة تمسكوا بقوله تعالى: {لِقَاءنَا} أنه جسم وقالوا اللقاء هو الوصول يقال هذا الجسم لقي ذلك أي وصل إليه واتصل به، وقال تعالى: {فَالْتَقَى الماء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] فدلت الآية على أنه سبحانه جسم والجواب على طريقين الأول: طريق بعض أصحابنا قال المراد من اللقاء هو الرؤية، وذلك لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمى اللقاء أحد أنواع الرؤية والنوع الآخر الاتصال والمماسة، فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية الطريق الثاني: وهو كلام المعتزلة، قال القاضي تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة، فيقال في الدعاء لقاك الله الخير وقد يقول القائل لم ألق الأمير وإن رآه من بعد أو حجب عنه، ويقال في الضرير لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب وقد يلقاه في الليلة الظلماء، ولا يراه بل المراد من اللقاء هاهنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً لا أن رؤية البصر، واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر، وبين الاتصال والمماسة وهو الوصول إلى الشيء، وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة، ينطلق على كل واحد من تلك المعاني فيصح قوله لقاك الخير، ويصح قول الأعمى لقيت الأمير، ويصح قول البصير لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه، وإذا ثبت هذا فنقول قوله: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} مذكور في معرض الذم لهم، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني، وبين الوصول بالرؤية، وقد تعذر الأول فتعين الثاني، وقوله المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها، بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار.
المسألة الثالثة: قوله: {لَوْلا أُنزِلَ} معناه هلا أنزل، قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث.
أما قوله تعالى: {لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير كونه جواباً، وذلك من وجوه:
أحدها: أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد ثبتت دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت.
وثانيها: أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك، بل لعموم كونه معجزاً، فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح، وهو محض الاستكبار والتعنت.
وثالثها: أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه يقول نعم هو رسولي، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم، لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول اللهم إن كنت صادقاً فأحيى هذا الميت فيحييه الله تعالى والعادة لم تجر بمثله وبين أن يقول له صدقت، وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز تعيين في كونه تصديقاً للمدعى كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت.
ورابعها: وهو أنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح على ما يقوله المعتزلة، أن نقول إن الله تعالى يفعل بحسب المشيئة عى ما يقوله أصحابنا، فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملاً على مفسدة لا يعرفها إلا الله تعالى، وكان التعيين استكباراً وعتواً من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة، فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات، وذلك استكبار عظيم، وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه فإنه سبحانه فعال لما يريد فكان الاقتراح استكباراً وعتواً وخروجاً عن حد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة.
وخامسها: وهو أن المقصود من بعثة الأنبياء الإحسان إلى الخلق فالملك الكبير إذا أحسن إلى بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع، ويقول لا أريد هذا بل أريد ذاك، حسن أن يقال إن هذا المكدي قد استكبر في نفسه وعتا عتواً شديداً من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته فكذا هاهنا.
وسادسها: يمكن أن يكون المراد أن الله تعالى قال لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به فلا جرم لا أعطيهم ذلك، وهذا التأويل يعرف من اللفظ.
وسابعها: لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: الآية دلت على أن الله تعالى لا تجوز رؤيته لأن رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً واستكباراً، قالوا وقوله: {لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} ليس إلا لأجل سؤال الرؤية حتى لو أنهم اقتصروا على نزول الملائكة لما خوطبوا بذلك، والدليل عليه أن الله تعالى ذكر أمر الرؤية في آية أخرى على حدة وذكر الاستعظام وهو قوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} [البقرة: 55] وذكر نزول الملائكة على حدة في آية أخرى فلم يذكر الاستعظام وهو قولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة} وهل نرى الملائكة فثبت بهذا أن الاستكبار والعتو في هذه الآية إنما حصل لأجل سؤال الرؤية.
واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة، والذي نريده هاهنا أنا بينا أن قوله: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} يدل على الرؤية، وأما الاستكبار والعتو، فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئاً محالاً، لا يقال إنه عتا واستكبر، ألا ترى أنهم لما قالوا: {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتواً واستكباراً، بل قال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقاً به، ولكنه يطلبه على سبيل التعنت. وبالجملة فقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة، ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه الله تعالى بالاستكبار والعتو، لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقاً، وهؤلاء طلبوها امتحاناً وتعنتاً، لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة.
المسألة الثالثة: إنما قال: {فِى أَنفُسِهِمْ} لأنهم أضمروا الاستكبار (عن الحق وهو الكفر والعناد) في قلوبهم واعتقدوه كما قال: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه} [غافر: 56] وقوله: {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا (عتا) فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه، يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
أما قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملئكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} فهو جواب لقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة} فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في انتصاب {يَوْمٍ} وجهين:
الأول: أن العامل ما دل عليه {لاَ بشرى} أي يوم يرون الملائكة (يبغون البشرى) و{يَوْمَئِذٍ} للتكرير الثاني: أن التقدير اذكر يوم يرون الملائكة.
المسألة الثانية: اختلفوا في ذلك اليوم، فقال ابن عباس يريد عند الموت، وقال الباقون يريد يوم القيامة.
المسألة الثالثة: إنما يقال للكافر لا بشرى لأن الكافر وإن كان ضالاً مضلاً إلا أنه يعتقد في نفسه أنه كان هادياً مهتدياً، فكان يطمع في ذلك الثواب العظيم، ولأنهم ربما عملوا ما رجوا فيه النفع كنصرة المظلوم وعطية الفقير وصلة الرحم، ولكنه أبطلها بكفره فبين سبحانه أنهم في أول الأمر يشافهون بما يدل على نهاية اليأس والخيبة، وذلك هو النهاية في الإيلام وهو المراد من قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47].
المسألة الرابعة: حق الكلام أن يقال يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم، لكنه قال لا بشرى للمجرمين وفيه وجهان:
أحدهما: أنه ظاهر في موضع ضمير والثاني: أنه عام فقد تناولهم بعمومه، قالت المعتزلة تدل الآية على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو لأن قوله: {لاَ بشرى لّلْمُجْرِمِينَ} نكرة في سياق النفي فيعم جميع أنواع البشرى في جميع الأوقات بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال بل له بشرى في الوقت الفلاني، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية، علمنا أن قوله تعالى: {لاَ بشرى} يقتضي نفي جميع أنواع البشرى في كل الأوقات، ثم إنه سبحانه أكد هذا النفي بقوله: {حِجْراً مَّحْجُوراً} والعفو من الله من أعظم البشرى، والخلاص من النار بعد دخولها من أعظم البشرى، وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين، والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم غير مرة، قال المفسرون المراد بالمجرمين هاهنا الكفار بدليل قوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} [المائدة: 72].
المسألة الخامسة: في تفسير قوله: {حِجْراً مَّحْجُوراً} ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك (الله) وعمرك (الله)، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو (موتور) أو هجوم نازلة ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: يقول الرجل للرجل (يفعل) كذا وكذا فيقول حجراً، وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه، فكان المعنى أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، فإن قيل: لما ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بكونه محجوراً؟ قلنا: جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا (ذبل ذابل فالذبل) الهوان وموت مائت وحرام محرم.
المسألة السادسة: اختلفوا في أن الذين يقولون حجراً محجوراً من هم؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنهم هم الكفار وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، (ثم) إذا رأوهم عند الموت (و) يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو (الموتور) ونزول الشدة القول الثاني: أن القائلين هم الملائكة ومعناه حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي جعل الله ذلك حراماً عليكم، ثم اختلفوا على هذا القول فقال بعضهم إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم، قالت الحفظة لهم حجراً محجوراً، وقال الكلبي الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين حجراً محجوراً، وقال عطية إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم بشرونا فيقولون حجراً محجوراً القول الثالث: وهو قول القفال والواحدي وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون حجراً محجوراً، فتقول الملائكة لا يعاذ من شر هذا اليوم.
أما قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا} فقد استدلت المجسمة بقوله: {وَقَدِمْنَا} لأن القدوم لا يصح إلا على الأجسام، وجوابه أنه لما قامت الدلالة على امتناع القدوم عليه لأن القدوم حركة والموصوف بالحركة محدث، ولذلك استدل الخليل عليها السلام بأفول الكواكب على حدوثها وثبت أن الله عز وجل لا يجوز أن يكون محدثاً، فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه:
أحدها: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} أي وقصدنا إلى أعمالهم، فإن القادم إلى الشيء قاصد له، فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازاً.
وثانيها: المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة، ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول: {وَقَدِمْنَا} على سبيل التوسع ونظيره قوله: {فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55].
وثالثها: {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال: {وَقَدِمْنَا}.
أما قوله: {إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} يعني الأعمال التي اعتقدوها براً وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى، والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان.
أما قوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] {كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} [إبراهيم: 18] {كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل: 5] قال أبو عبيدة والزجاج: الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس.
وقال مقاتل: إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب.
أما قوله: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيهاً على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى، وهاهنا سؤالات:
الأول: كيف يكون أصحاب الجنة خيراً مستقراً من أهل النار، ولا خير في النار، ولا يقال في العسل هو أحل من الخل؟ والجواب من وجوه:
الأول: ما تقدم في قوله: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] والثاني: يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير، لأن مستقر خير من النار، كقول الشاعر:
إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعز وأطول
الثالث: التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع، والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع: هذا التفاضل واقع على هذا التقدير، أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيراً منه.
السؤال الثاني: الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك؟ والجواب من وجوه:
الأول: أن المستقر مكان الاستقرار، والمقيل زمان القيلولة، فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان الثاني: أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم، فإنهم يقيلون في الفردوس، ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث: أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة، قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار وقرأ ابن مسعود: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم).
وقال سعيد بن جبير: إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقال مقاتل: يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة.
السؤال الثالث: كيف يصح القيلولة في الجنة والنار، وعندكم أن أهل الجنة في الآخرة لا ينامون، وأهل النار أبداً في عذاب يعرفونه، وأهل الجنة في نعيم يعرفونه؟ والجواب: قال الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] وليس في الجنة بكرة وعشي، لقوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 13] ولأنه إذا لم يكن هناك شمس لم يكن هناك نصف النهار ولا وقت القيلولة، بل المراد منه بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع وأحسنها، كما أن موضع القيلولة يكون أطيب المواضع، والله أعلم.


{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}
اعلم أن هذا الكلام مبني على ما استدعوه من إنزال الملائكة فبين سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له صفات:
الصفة الأولى: أن في ذلك اليوم تشقق السماء بالغمام، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {إِذَا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] يدل على التشقق وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} [البقرة: 210] يدل على الغمام فقوله: {تَشَقَّقُ السماء بالغمام} جامع لمعنى الآيتين ونظيره قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا} [النبأ: 19] وقوله: {فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16].
المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين هاهنا وفي سورة ق، والباقون بالتشديد، قال أبو عبيدة: الاختيار التخفيف كما يخفف تساءلون ومن شدد فمعناه تتشقق.
المسألة الثالثة: قال الفراء: المراد من قوله: {بالغمام} أي عن الغمام، لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام، وقال القاضي: لا يمتنع أن يجعل تعالى الغمام بحيث تشقق السماء باعتماده عليه وهو كقوله: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18].
المسألة الرابعة: لابد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة، فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها، ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلاً بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض.
المسألة الخامسة: قوله: {وَنُزّلَ الملائكة} صيغة عموم فيتناول الكل، ولأن السماء مقر الملائكة فإذا تشقق وجب أن ينزلوا إلى الأرض، ثم قال مقاتل: تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من سكان الدنيا، كذلك تتشقق سماء سماء، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، ثم ينزل الرب تعالى.
وروى الضحاك عن ابن عباس: قال تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم، واعلم أن نزول الرب بالذات باطل قطعاً، لأن النزول حركة والموصوف بالحركة محدث والإله لا يكون محدثاً.
وأما نزول الملائكة إلى الأرض فعليه سؤال، وذلك لأنه ثبت أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش فملائكة هذه المواضع بأسرها كيف تتسع لهم الأرض جميعاً؟ فلعل الله تعالى يزيد في طول الأرض وعرضها ويبلغها مبلغاً يتسع لكل هؤلاء، ومن المفسرين من قال: الملائكة يكونون في الغمام منه، والله تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة ويكون ذلك الغمام مقر الملائكة.
قال الحسن: والغمام سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه بنسخ أعمال بني آدم والمحاسبة تكون في الأرض.
المسألة السادسة: أما نزول الملائكة فظاهر، ومعنى {تَنْزِيلاً} توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه.
المسألة السابعة: الألف واللام في الغمام ليس للعموم فهو للمعهود، والمراد ما ذكروه في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة} [البقرة: 210].
المسألة الثامنة: قرئ: {وَنُنَزّلُ الملائكة}، {وَنُنَزّلُ الملائكة}، {وَنُزّلَ الملائكة}، {وَنُزّلَ الملائكة} {وَنُزّلَ الملائكة} على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل قراءة أهل مكة.
الصفة الثانية لذلك اليوم: قوله: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق الرحمن} قال الزجاج الحق صفة للملك وتقديره الملك الحق يومئذ للرحمن، ويجوز الحق بالنصب على تقدير أعني ولم يقرأ به ومعنى وصفه بكونه حقاً أنه لا يزول ولا يتغير، فإن قيل: مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن فما الفائدة في قوله: {يَوْمَئِذٍ}؟ قلنا: لأن في ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام، واعلم أن هذه الآية دالة على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله الثواب والعوض وذلك لأنه لو وجب لاستحق الذم بتركه فكان خائفاً من أن لا يفعل فلم يكن ملكاً مطلقاً وأيضاً فقوله: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} يفيد أنه ليس لغيره ملك وذلك لا يتم على قول المعتزلة، لأن كل من استحق عليه شيئاً فإنه يكون مالكاً له، ولا يكون هو سبحانه مالكاً لذلك المستحق، لأنه سبحانه إذا استحق على أحد شيئاً أمكنه أن يعفو عنه، أما غيره إذا استحق عليه شيئاً فإنه لا يصح إبراؤه عنه، فكانت العبودية هاهنا أتم، ولأن من كفر بالله إلى آخر عمره ثم في آخر عمره عرف الله لحظة ومات فهو سبحانه لو أعطاه ألف ألف سنة أنواع الثواب وأراد بعد ذلك أن لا يعطيه لحظة واحدة صار سفيهاً، وهذا نهاية العبودية والذل فكيف يليق بمن هذا حاله أن يقال له: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} وأيضاً فكل من فعل فعلاً لو لم يفعله لكان مستوجباً للذم وكان بذلك الفعل مكتسباً للكمال وبتركه مكتسباً للنقصان فلم يكن ملكاً بل فقيراً مستحقاً، فثبت أن قوله سبحانه: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} غير لائق بأصول المعتزلة.
الصفة الثالثة: قوله: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} فالمعنى ظاهر لأنه تعالى عالم بالأحوال قادر على كل ما يريده وأما غيره فالكل في ربقة العجز ولجام القهر، فكان في نهاية العسر على الكافر.
الصفة الرابعة: قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الألف واللام في الظالم فيه قولان:
أحدهما: أنه للعموم والثاني: أنه للمعهود، والقائلون بالمعهود على قولين: الأول: قال ابن عباس المراد عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من مقر إلا صنع طعاماً يدعو إليه جيرته من أهل مكة ويكثر مجالسة الرسول ويعجبه حديثه فصنع طعاماً ودعا الرسول فقال صلى الله عليه وسلم ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين ففعل فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه فبلغ أمية بن خلف فقال صبوت يا عقبة وكان خليله فقال إنما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي فقال لا أرضى أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه ففعل، فقال عليه السلام لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فنزل {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} ندامة يعني عقبة يقول: يا ليتني لم أتخذ أمية خليلاً لقد أضلني عن الذكر. أي صرفني عن الذكر وهو القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع محمد صلى الله عليه وسلم فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحارث الثاني: قالت الرافضة: هذا الظالم هو رجل بعينه وإن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلاناً بدلاً من اسمه، وذكروا فاضلين من أصحاب رسول الله، واعلم أن إجراء اللفظ على العموم ليس لنفس اللفظ، لأنا بينا في أصول الفقه أن الألف واللام إذا دخل على الاسم المفرد لا يفيد العموم بل إنما يفيده للقرينة من حيث إن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدل ذلك على أن المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً وحينئذ يعم الحكم لعموم علته وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة لأن هذا الذي ذكرناه يقتضي العموم، ونزوله في واقعة أخرى خاصة لا ينافي أن يكون المراد هو العموم حتى يدخل فيه تلك الصورة وغيرها ولأن المقصود من الآية زجر الكل عن الظلم وذلك لا يحصل إلا بالعموم، وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن وإثبات أنه غير وبدل ولا نزاع في أنه كفر.
المسألة الثانية: استدلت المعتزلة بقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} قالوا الظالم يتناول الكافر والفاسق، فدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة والكلام عليه تقدم.
المسألة الثالثة: قوله: {يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} قال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت، وقال أهل التحقيق هذه اللفظة مشعرة بالتحسر والغم، يقال عض أنامله وعض على يديه.
المسألة الرابعة: كما بينا أن الظالم غير مخصوص بشخص واحد بل يعم جميع الظلمة فكذا المراد بقوله فلاناً ليس شخصاً واحداً بل كل من أطيع في معصية الله، واستشهد القفال بقوله: {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً} [الفرقان: 55]، {وَيَقُولُ الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} [النبأ: 40] يعني به جماعة الكفار.
المسألة الخامسة: قرئ {يا ويلتي} بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها: تعالى فهذا أوانك، وإنما قلبت الياء ألفاً كما في صحارى و(عذارى).
المسألة السادسة: قوله: {عَنِ الذكر} أي عن ذكر الله أو القرآن وموعظة الرسول ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق (وغيرته) على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة، أو أراد إبليس فإنه هو الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المضل ومخالفة الرسول ثم خذله أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس، ويحتمل أن يكون {وَكَانَ الشيطان} حكاية كلام الظالم وأن يكون كلام الله.


{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}
اعلم أن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله تعالى وقال: {الرسول يارب إِنَّ قَوْمِى اتخذوا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أكثر المفسرين أنه قول واقع من الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أبو مسلم بل المراد أن الرسول عليه السلام يقوله في الآخرة وهو كقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41] والأول أولى لأنه موافق للفظ ولأن ما ذكره الله تعالى من قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} [الفرقان: 31] تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولا يليق إلا إذا كان وقع ذلك القول منه.
المسألة الثانية: ذكروا في المهجور قولين: الأول: أنه من الهجران أي تركوا الإيمان به ولم يقبلوه وأعرضوا عن استماعه الثاني: أنه من أهجر أي مهجورا فيه ثم حذف الجار ويؤكده قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] ثم هجرهم فيه أنهم كانوا يقولون إنه سحر وشعر وكذب وهجر أي هذيان، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلم القرآن (وعلمه) وعلق مصحفاً لم يتعهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً، اقض بيني وبينه».
ثم إنه تعالى قال مسلياً لرسوله عليه الصلاة والسلام ومعزياً له {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} وبين بذلك أن له أسوة بسائر الرسل، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر لأن قوله تعالى: {جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً} يدل على أن تلك العداوة من جعل الله ولا شك أن تلك العداوة كفر قال الجبائي: المراد من الجعل التبيين، فإنه تعالى لما بين أنهم أعداؤه، جاز أن يقول: جعلناهم أعداءه، كما إذا بين الرجل أن فلاناً لص يقال جعله لصاً كما يقال في الحاكم عدل فلاناً وفسق فلاناً وجرحه، قال الكعبي: إنه تعالى لما أمر الأنبياء بعداوة الكفار وعداوتهم للكفار تقتضي عداوة الكفار لهم، فلهذا جاز أن يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} لأنه سبحانه هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة، وقال أبو مسلم: يحتمل في العدو أنه البعيد لا القريب إذ المعاداة المباعدة كما أن النصر القرب والمظاهرة، وقد باعد الله تعالى بين المؤمنين والكافرين والجواب عن الأول: أن التبيين لا يسمونه ألبتة جعلاً لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال إنه جعل الصانع وجعل قدمه والجواب عن الثاني: أن الذي أمره الله تعالى به هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم أو ليس له تأثير؟ فإن كان الأول فقد تم الكلام لأن عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم كفر فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة فقد أمره بما له أثر في وقوع الكفر وإن لم يكن فيه تأثير ألبتة كان منقطعاً عنه بالكلية فيمتنع إسناده إليه، وهذا هو الجواب عن قول أبي مسلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول إن قول محمد عله السلام: {يارب إِنَّ قَوْمِى اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} في المعنى كقول نوح عليه السلام {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 5، 6] وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هاهنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107]؟ جوابه: أن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق.
المسألة الثالثة: قوله: {جَعَلْنَا} صيغة العظماء والتعظيم إذا ذكر نفسه في كل معرض من التعظيم وذكر أنه يعطي فلابد وأن تكون تلك العطية عظيمة كقوله: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني} [الحجر: 87] وقوله: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟ وجوابه: أن خلق العداوة سبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب، والله أعلم.
المسألة الرابعة: يجوز أن يكون العدو واحداً وجمعاً كقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} [الشعراء: 77] وجاء في التفسير أن عدو الرسول صلى الله عليه وسلم أبو جهل.
أما قوله: {وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} فقال الزجاج الباء زائدة يعني كفى ربك وهادياً ونصيراً منصوبان على الحال هادياً إلى مصالح الدين والدنيا، ونصيراً على الأعداء، ونظيره {يا أيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64]

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8